في سياق دراساته القرآنية أصدر الباحث محمد نور الدين المنجد كتابه الذي جاء تحت عنوان (التضاد في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق)، وهذا الكتاب - كما يقول المؤلف - امتداد لكتاب آخر صدر له تحت عنوان (الاشتراك اللفظي في القرآن الكريم) .
يذكر الباحث بداية أن اللغة العربية - كغيرها من اللغات - اشتملت على بعض الظواهر اللغوية، كظاهرة الترادف، وظاهرة الاشتراك اللفظي، ويقرر بهذا الصدد أن ظاهرة التضاد ليست موجودة في اللغة العربية فحسب، وإنما هي موجودة في جميع اللغات الحية .
وقد قسم الباحث دراسته إلى مقدمة وفصلين وخاتمة. بيَّن في المقدمة طبيعة ظاهرة التضاد وموقف العلماء منها، وذكر أن المنهج المرتضى لديه لبحث هذه الظاهرة المنهج التأريخي، الذي يأخذ بأصول الألفاظ ويبحث عنها، من غير تتبع لعوامل التطور التي تطرأ عليها، من حيث الصوت ومن حيث الدلالة .
الفصل الأول من الكتاب يمثل الجانب النظري منه، حيث جاء تحت عنوان (التضاد في جهود السابقين)، وتضمن هذا الفصل مبحثين؛ جاء الأول تحت عنوان (التضاد في اللغة)، فعرف الباحث بداية أن المراد من مصطلح (الأضداد) عند اللغويين: الألفاظ التي تنصرف إلى معنيين متضادين .
وقد تناول الباحث في هذا المبحث جانبين: الأول: ذكر فيه أسماء الذين جمعوا ألفاظ التضاد وأسماء كتبهم، وذكر هنا أن قلة ألفاظ الأضداد وطرافتها هما الدافع الذي دفع اللغويين الأوائل إلى جمعها، ثم في القرن الثالث الهجري كان الدافع لجمعها دينياً محضاً؛ لفهم ألفاظ القرآن. وذكر أيضاً أن هناك من المتقدمين من أفرد كتباً خاصة للأضداد، ومنهم من خصص لها أبواباً ضمن كتب لغوية عامة، كما ذكر الباحث أن عدداً من الباحثين العرب المعاصرين تناول هذه الظاهرة بالدراسة والبحث، وفعل مثل ذلك عدد من المستشرقين .
أما الجانب الثاني من هذا المبحث، فقد ذكر فيه الباحث أسماء الذين درسوا ظاهرة التضاد في اللغة، وبيَّن موقف العلماء المتقدمين والمعاصرين من هذه الظاهرة إثباتاً ونفياً .
وقد ذكر الباحث أن في مقدمة المثبتين لظاهرة الأضداد من المتقدمين ابن الأنباري ، حيث دافع عن هذه الظاهرة، ويصفه بأنه "المتصيد للأضداد، المستكثر في جمعها". وكان المبرد و ابن درستويه على رأس المنكرين لهذه الظاهرة .
ويضيف الباحث أن المثبتين للأضداد في اللغة طائفتان: الأولى: سلكت سبيل العداء للعربية، كالشعوبيين ومن وافقهم، الذين كانوا يعيبون على العربية وجود التضاد فيها. والثانية: سلكت سبيل الدفاع عنها. أما المنكرون للأضداد فهم طائفة واحدة من القدامى والمعاصرين، أحبت العربية ودافعت عنها بتعليل وجود هذه الظاهرة فيها بتعليلات عديدة، كاختلاف لغات العرب، والتطور اللغوي، والأسباب البلاغية، والأسباب الصرفية، وغير ذلك من الأسباب التي أرجع إليها منكرو هذه الظاهرة الأضداد .
ويذكر الباحث أن الذين أنكروا ظاهرة الأضداد من المتقدمين كانوا فئتين: الأولى: أنكرت هذه الظاهرة إنكاراً كلياً. والثانية: أنكرتها إنكاراً جزئياً. أما المعاصرون فقد أنكر أكثرهم هذه الظاهرة، أو على الأقل ضيقوا من دائرتها .
ويتعرض الباحث في هذا الفصل للأسباب التي أدت إلى نشوء ظاهرة الأضداد، فيذكر منها: تداخل اللغات، والتطور اللغوي، والتطور الدلالي، وغير ذلك من الأسباب. ويخلص إلى أن معظم تلك الأسباب لا ينطبق على حقيقة التضاد .
ويقرر الباحث أن الآثار المترتبة على هذه الظاهرة لا ينبغي المبالغة فيها؛ لأن رصيد اللغة من التضاد ضئيل نسبياً، ويزداد تضاؤلاً بسبب قلة استخدامه بين الكُتَّاب، وعدم شيوعه بين الأدباء .
أما المبحث الثاني من الفصل الأول فقد جعله الباحث تحت عنوان: (التضاد بين علمي أصول الفقه والمنطق)، ولم يفصل الباحث القول في هذا المبحث، وإنما أحال إلى كتابه (الاشتراك اللفظي في القرآن) .
الفصل الثاني من الكتاب - وهو الذي يعنينا هنا - يمثل الجانب التطبيقي من هذه الدراسة، وجاء تحت عنوان (التضاد في القرآن)، وقد تتبع الباحث ما ذكره المتقدمون من ألفاظ الأضداد الواردة في القرآن، وقام بدراسة تلك الألفاظ دراسة تحليلية على ضوء مساقاتها في القرآن، وخَلُص إلى نفي صفة الأضداد عن تلك الألفاظ .
وقد تضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث: الأول: جاء تحت عنوان (التضاد في حروف المعاني)، حيث ذكر الباحث طائفة من حروف المعاني، كـ (إذ) و(إذا)، و(هل)، ونحوها، التي قيل إنها من باب التضاد. وقرر بعد دراسته لتلك الحروف وتحليلها، أنها ليس لها حقيقة التضاد، وأرجع ذلك لأسباب لا يسعف المقام بذكرها. ونكتفي بذكر مثال واحد بهذا الصدد، وهو حرف (أو)، فبعد أن ينقل الباحث قول من قال: إن هذا الحرف يفيد الشك، ويفيد العطف، وفيهما معنى الضد، ينقل عن ابن هشام ما يفيد أن (أو) لها دلالة واحدة أصلية، وغيرها مستفاد منها، أو خارج عن الأصل. ويخلص الباحث من ذلك إلى أن التحقيق يخرج هذا الحرف من الأضداد؛ لأن المعنى الأول هو الأصل، أما باقي المعاني فهي خارجة عنه. وعلى وفق هذا ينفي القول بـ (أضدادية) باقي حروف المعاني التي ذكرها بعض اللغويين على أنها من الأضداد .
المبحث الثاني من هذا الفصل جاء تحت عنوان (التضاد في المواد اللغوية)، وفيه حلل الباحث ما يزيد عن مئة وثلاثين كلمة قرآنية مستنبطة من كتب الأضداد، رتبها ترتيباً أبجدياً، ودرس كل لفظ على حده، وفقاً للمنهج التأريخي، وبقياس اللفظ على أمثاله من القرآن الكريم، وخلص بهذا الصدد إلى إبطال دعوى التضاد في ألفاظ القرآن .
ومن الألفاظ التي درسها الباحث لفظ (حنيف)، حيث ذكر أن كتب الأضداد تذكر أن لفظ (الحنيف) يدل على المائل والمستقيم، ثم بيَّن أن هذا اللفظ ورد في القرآن اثنتي عشرة مرة، جاء في كل تلك المواضع بمعنى الاستقامة والبحث عنها، لا غير، كقوله تعالى: { قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } (البقرة:135) .
ومن الألفاظ التي تناولها الباحث لفظ (الخَلَف)، فهذا اللفظ عند من يقول بضديته، يدل على الولد الصالح، والولد الطالح. وبعد أن بيَّن الباحث أن هذا اللفظ ورد في القرآن مرتين؛ أولهما: قوله تعالى: { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى } (الأعراف:169)، وثانيهما: قوله سبحانه: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } (مريم:59)، رد هذا القول، وقرر أن هذا اللفظ لا يدل إلا على معنى (الولد)، أما تخصيصه بـ (الصالح)، أو (الطالح) فإنما هو مستفاد من سياق الآيتين، وفي كلا الآيتين يدل السياق على أن المقصود بـ (الخلف) الخلف الطالح، أما الخلف الصالح، فيدل عليه قول حسان :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وعلى هذا النسق درس الباحث ما ذكره جامعو مواد الأضداد من ألفاظ القرآن، وخلص إلى نفي الأضداد في ألفاظ القرآن .
المبحث الثالث من هذا الفصل، كان تحت عنوان (التضاد في الصيغ الصرفية)، قرر الباحث بداية أن التضاد في الصيغ الصرفية أقرب إلى علم الصرف منه إلى علم البلاغة، كجعل المفعول فاعلاً، كما في قولهم: هذا سر كاتم، أي: مكتوم؛ وقولهم: عيشة راضية، أي: مرضية، ومنه قوله تعالى: { خلق من ماء دافق } (الطارق:6)، أي: مدفوق. وقد ذكر الباحث من الصيغ الصرفية التي ذكرها بعض اللغويين ضمن معاني التضاد، الصيغ التالية:
- المفعول على صيغة الفاعل، وقد ورد في القرآن العديد من الألفاظ على حسب هذه الصيغة، كلفظ (أمن)، كما في قوله تعالى: { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } (العنكبوت:67)، ومن الألفاظ التي جاءت بحسب هذه الصيغة أيضاً: { داحضة } (الشورى:16)، { دافق } (الطارق:6)، { راضية } (الحاقة:21) .
- الفاعل على صيغة المفعول، ورد من الألفاظ التي جاءت في القرآن بحسب هذه الصيغة: لفظ (مأتي)، في قوله تعالى: { إنه كان وعده مأتيا } (مريم:61)، ولفظ (مستور)، في قوله تعالى: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } (الإسراء:45) .
وقد ذكر الباحث العديد من تلك الصيغ الصرفية، التي ذُكرت في كتب الأضداد، وصُنفت على أنها من بابه، وناقش أصحابها، وقرر نهاية أن (الضدية) فيها ليست على الحقيقة، وإنما يفهم معنى (الضدية) فيها من السياق، أو من الملابسات المحيطة بتلك الألفاظ .
وقد أردف الباحث هذا الفصل بخلاصة، ذكر فيها " أن التأليف في جمع الأضداد وشرحها كان قائما على علل لا تثبت للنقد، وأن الآيات التي استُشهد بها لا تدل على وجود هذه الظاهرة في القرآن الكريم على الأقل "، وذكر ثماني عشرة علة من العلل التي أقيمت على أساسها هذه الظاهرة، كزعم التضاد في ألفاظ لا شواهد عليها؛ أو زعم التضاد بين لفظ مطلق وآخر مقيد؛ أو زعم التضاد بين معنيين مختلفين، ونحو ذلك من العلل .
وفي خاتمة المطاف، قرر الباحث "أنه لا تضاد في القرآن الكريم عند التحقيق، لا في ألفاظه ولا في صيغه، وإنما الذي ورد فيه من بعض ألفاظ وصيغ متضادة، فمردها إلى اختلاف لغات القبائل، وما ذاك - كما يرى الباحث - إلا ليستأنس به الأعراب، ويُقبلوا عليه؛ إذ يجدون فيه من لغاتهم ألفاظاً، وصيغاً تدفع عنهم الاستيحاش، فيبشون له، ويُقبلون عليه، بعد أن كانوا مضطرين إلى استخدام لغة قريش في أشعارهم، حتى تحقق الانتشار في عكاظ، أَمَا وقد نزل القرآن بكل لغاتهم، فإن هذا يرفع من شأن لسانهم، ويحببهم بهذا الدين الجديد، الذي أقبل على لغاتهم، فرفع من شأنها، بعد أن كانوا يستشعرون غضاضة من إقبالهم على لغة غيرهم، وهذا شأن الأعرابي المتمسك بعصبيته وانتسابه إلى قبيلته ولغته اللتين يعتز بهما" .
وكان من ضمن النتائج التي قررها الباحث - غير ما تقدم من نفي التضاد في القرآن - هو اعتبار التضاد جزءاً من الاشتراك اللفظي، وهو رأي كثير من الدارسين لهذه الظاهرة .
وعلى الجملة يمكن اعتبار هذا الكتاب إضافة مهمة إلى المكتبة القرآنية؛ من جهة بحث ظاهرة التضاد في القرآن، تلك الظاهرة التي لم تحظ بالدرس المطلوب، سواء في كتابات المتقدمين أم في كتابات المتأخرين .
ونحسب أن الباحث وفِّق إلى حدٍّ كبير في دراسة وتحليل هذه الظاهرة، دون أن ينفي ذلك وجود بعض الاستدراكات التي تؤخذ على الباحث، والتي من بينها ما ذكره في فهرس الكتاب من عنوان (التضاد في علمي أصول الفقه والمنطق)، وجَعْله ذلك مبحثاً مستقلاً، غير أنه لم يتحدث في هذا المبحث إلا ببضع أسطر! وأحال القارئ إلى كتابه (الاشتراك اللفظي في القرآن) .
كما أن القارئ يلمس شيئاً من التناقض بين ما جاء في مقدمة الباحث، حيث قرر أن "اجتماع الضدين في لفظ واحد ظاهرة ليست بمنأى عن اللغات الحية"، وبين ما قرره في خاتمة بحثه من نفي "وجود هذه الظاهرة في القرآن الكريم على الأقل - على حد قوله - إن لم نقل في العربية عامة "، لكن ذلك لا يقلل من قيمة هذه الدراسة فيما نحسب .
الكتاب صدرت طبعته الأولى عن دار الفكر بدمشق عام 1999، وأعيدت طباعته 2007 .
يذكر الباحث بداية أن اللغة العربية - كغيرها من اللغات - اشتملت على بعض الظواهر اللغوية، كظاهرة الترادف، وظاهرة الاشتراك اللفظي، ويقرر بهذا الصدد أن ظاهرة التضاد ليست موجودة في اللغة العربية فحسب، وإنما هي موجودة في جميع اللغات الحية .
وقد قسم الباحث دراسته إلى مقدمة وفصلين وخاتمة. بيَّن في المقدمة طبيعة ظاهرة التضاد وموقف العلماء منها، وذكر أن المنهج المرتضى لديه لبحث هذه الظاهرة المنهج التأريخي، الذي يأخذ بأصول الألفاظ ويبحث عنها، من غير تتبع لعوامل التطور التي تطرأ عليها، من حيث الصوت ومن حيث الدلالة .
الفصل الأول من الكتاب يمثل الجانب النظري منه، حيث جاء تحت عنوان (التضاد في جهود السابقين)، وتضمن هذا الفصل مبحثين؛ جاء الأول تحت عنوان (التضاد في اللغة)، فعرف الباحث بداية أن المراد من مصطلح (الأضداد) عند اللغويين: الألفاظ التي تنصرف إلى معنيين متضادين .
وقد تناول الباحث في هذا المبحث جانبين: الأول: ذكر فيه أسماء الذين جمعوا ألفاظ التضاد وأسماء كتبهم، وذكر هنا أن قلة ألفاظ الأضداد وطرافتها هما الدافع الذي دفع اللغويين الأوائل إلى جمعها، ثم في القرن الثالث الهجري كان الدافع لجمعها دينياً محضاً؛ لفهم ألفاظ القرآن. وذكر أيضاً أن هناك من المتقدمين من أفرد كتباً خاصة للأضداد، ومنهم من خصص لها أبواباً ضمن كتب لغوية عامة، كما ذكر الباحث أن عدداً من الباحثين العرب المعاصرين تناول هذه الظاهرة بالدراسة والبحث، وفعل مثل ذلك عدد من المستشرقين .
أما الجانب الثاني من هذا المبحث، فقد ذكر فيه الباحث أسماء الذين درسوا ظاهرة التضاد في اللغة، وبيَّن موقف العلماء المتقدمين والمعاصرين من هذه الظاهرة إثباتاً ونفياً .
وقد ذكر الباحث أن في مقدمة المثبتين لظاهرة الأضداد من المتقدمين ابن الأنباري ، حيث دافع عن هذه الظاهرة، ويصفه بأنه "المتصيد للأضداد، المستكثر في جمعها". وكان المبرد و ابن درستويه على رأس المنكرين لهذه الظاهرة .
ويضيف الباحث أن المثبتين للأضداد في اللغة طائفتان: الأولى: سلكت سبيل العداء للعربية، كالشعوبيين ومن وافقهم، الذين كانوا يعيبون على العربية وجود التضاد فيها. والثانية: سلكت سبيل الدفاع عنها. أما المنكرون للأضداد فهم طائفة واحدة من القدامى والمعاصرين، أحبت العربية ودافعت عنها بتعليل وجود هذه الظاهرة فيها بتعليلات عديدة، كاختلاف لغات العرب، والتطور اللغوي، والأسباب البلاغية، والأسباب الصرفية، وغير ذلك من الأسباب التي أرجع إليها منكرو هذه الظاهرة الأضداد .
ويذكر الباحث أن الذين أنكروا ظاهرة الأضداد من المتقدمين كانوا فئتين: الأولى: أنكرت هذه الظاهرة إنكاراً كلياً. والثانية: أنكرتها إنكاراً جزئياً. أما المعاصرون فقد أنكر أكثرهم هذه الظاهرة، أو على الأقل ضيقوا من دائرتها .
ويتعرض الباحث في هذا الفصل للأسباب التي أدت إلى نشوء ظاهرة الأضداد، فيذكر منها: تداخل اللغات، والتطور اللغوي، والتطور الدلالي، وغير ذلك من الأسباب. ويخلص إلى أن معظم تلك الأسباب لا ينطبق على حقيقة التضاد .
ويقرر الباحث أن الآثار المترتبة على هذه الظاهرة لا ينبغي المبالغة فيها؛ لأن رصيد اللغة من التضاد ضئيل نسبياً، ويزداد تضاؤلاً بسبب قلة استخدامه بين الكُتَّاب، وعدم شيوعه بين الأدباء .
أما المبحث الثاني من الفصل الأول فقد جعله الباحث تحت عنوان: (التضاد بين علمي أصول الفقه والمنطق)، ولم يفصل الباحث القول في هذا المبحث، وإنما أحال إلى كتابه (الاشتراك اللفظي في القرآن) .
الفصل الثاني من الكتاب - وهو الذي يعنينا هنا - يمثل الجانب التطبيقي من هذه الدراسة، وجاء تحت عنوان (التضاد في القرآن)، وقد تتبع الباحث ما ذكره المتقدمون من ألفاظ الأضداد الواردة في القرآن، وقام بدراسة تلك الألفاظ دراسة تحليلية على ضوء مساقاتها في القرآن، وخَلُص إلى نفي صفة الأضداد عن تلك الألفاظ .
وقد تضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث: الأول: جاء تحت عنوان (التضاد في حروف المعاني)، حيث ذكر الباحث طائفة من حروف المعاني، كـ (إذ) و(إذا)، و(هل)، ونحوها، التي قيل إنها من باب التضاد. وقرر بعد دراسته لتلك الحروف وتحليلها، أنها ليس لها حقيقة التضاد، وأرجع ذلك لأسباب لا يسعف المقام بذكرها. ونكتفي بذكر مثال واحد بهذا الصدد، وهو حرف (أو)، فبعد أن ينقل الباحث قول من قال: إن هذا الحرف يفيد الشك، ويفيد العطف، وفيهما معنى الضد، ينقل عن ابن هشام ما يفيد أن (أو) لها دلالة واحدة أصلية، وغيرها مستفاد منها، أو خارج عن الأصل. ويخلص الباحث من ذلك إلى أن التحقيق يخرج هذا الحرف من الأضداد؛ لأن المعنى الأول هو الأصل، أما باقي المعاني فهي خارجة عنه. وعلى وفق هذا ينفي القول بـ (أضدادية) باقي حروف المعاني التي ذكرها بعض اللغويين على أنها من الأضداد .
المبحث الثاني من هذا الفصل جاء تحت عنوان (التضاد في المواد اللغوية)، وفيه حلل الباحث ما يزيد عن مئة وثلاثين كلمة قرآنية مستنبطة من كتب الأضداد، رتبها ترتيباً أبجدياً، ودرس كل لفظ على حده، وفقاً للمنهج التأريخي، وبقياس اللفظ على أمثاله من القرآن الكريم، وخلص بهذا الصدد إلى إبطال دعوى التضاد في ألفاظ القرآن .
ومن الألفاظ التي درسها الباحث لفظ (حنيف)، حيث ذكر أن كتب الأضداد تذكر أن لفظ (الحنيف) يدل على المائل والمستقيم، ثم بيَّن أن هذا اللفظ ورد في القرآن اثنتي عشرة مرة، جاء في كل تلك المواضع بمعنى الاستقامة والبحث عنها، لا غير، كقوله تعالى: { قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } (البقرة:135) .
ومن الألفاظ التي تناولها الباحث لفظ (الخَلَف)، فهذا اللفظ عند من يقول بضديته، يدل على الولد الصالح، والولد الطالح. وبعد أن بيَّن الباحث أن هذا اللفظ ورد في القرآن مرتين؛ أولهما: قوله تعالى: { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى } (الأعراف:169)، وثانيهما: قوله سبحانه: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } (مريم:59)، رد هذا القول، وقرر أن هذا اللفظ لا يدل إلا على معنى (الولد)، أما تخصيصه بـ (الصالح)، أو (الطالح) فإنما هو مستفاد من سياق الآيتين، وفي كلا الآيتين يدل السياق على أن المقصود بـ (الخلف) الخلف الطالح، أما الخلف الصالح، فيدل عليه قول حسان :
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وعلى هذا النسق درس الباحث ما ذكره جامعو مواد الأضداد من ألفاظ القرآن، وخلص إلى نفي الأضداد في ألفاظ القرآن .
المبحث الثالث من هذا الفصل، كان تحت عنوان (التضاد في الصيغ الصرفية)، قرر الباحث بداية أن التضاد في الصيغ الصرفية أقرب إلى علم الصرف منه إلى علم البلاغة، كجعل المفعول فاعلاً، كما في قولهم: هذا سر كاتم، أي: مكتوم؛ وقولهم: عيشة راضية، أي: مرضية، ومنه قوله تعالى: { خلق من ماء دافق } (الطارق:6)، أي: مدفوق. وقد ذكر الباحث من الصيغ الصرفية التي ذكرها بعض اللغويين ضمن معاني التضاد، الصيغ التالية:
- المفعول على صيغة الفاعل، وقد ورد في القرآن العديد من الألفاظ على حسب هذه الصيغة، كلفظ (أمن)، كما في قوله تعالى: { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } (العنكبوت:67)، ومن الألفاظ التي جاءت بحسب هذه الصيغة أيضاً: { داحضة } (الشورى:16)، { دافق } (الطارق:6)، { راضية } (الحاقة:21) .
- الفاعل على صيغة المفعول، ورد من الألفاظ التي جاءت في القرآن بحسب هذه الصيغة: لفظ (مأتي)، في قوله تعالى: { إنه كان وعده مأتيا } (مريم:61)، ولفظ (مستور)، في قوله تعالى: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } (الإسراء:45) .
وقد ذكر الباحث العديد من تلك الصيغ الصرفية، التي ذُكرت في كتب الأضداد، وصُنفت على أنها من بابه، وناقش أصحابها، وقرر نهاية أن (الضدية) فيها ليست على الحقيقة، وإنما يفهم معنى (الضدية) فيها من السياق، أو من الملابسات المحيطة بتلك الألفاظ .
وقد أردف الباحث هذا الفصل بخلاصة، ذكر فيها " أن التأليف في جمع الأضداد وشرحها كان قائما على علل لا تثبت للنقد، وأن الآيات التي استُشهد بها لا تدل على وجود هذه الظاهرة في القرآن الكريم على الأقل "، وذكر ثماني عشرة علة من العلل التي أقيمت على أساسها هذه الظاهرة، كزعم التضاد في ألفاظ لا شواهد عليها؛ أو زعم التضاد بين لفظ مطلق وآخر مقيد؛ أو زعم التضاد بين معنيين مختلفين، ونحو ذلك من العلل .
وفي خاتمة المطاف، قرر الباحث "أنه لا تضاد في القرآن الكريم عند التحقيق، لا في ألفاظه ولا في صيغه، وإنما الذي ورد فيه من بعض ألفاظ وصيغ متضادة، فمردها إلى اختلاف لغات القبائل، وما ذاك - كما يرى الباحث - إلا ليستأنس به الأعراب، ويُقبلوا عليه؛ إذ يجدون فيه من لغاتهم ألفاظاً، وصيغاً تدفع عنهم الاستيحاش، فيبشون له، ويُقبلون عليه، بعد أن كانوا مضطرين إلى استخدام لغة قريش في أشعارهم، حتى تحقق الانتشار في عكاظ، أَمَا وقد نزل القرآن بكل لغاتهم، فإن هذا يرفع من شأن لسانهم، ويحببهم بهذا الدين الجديد، الذي أقبل على لغاتهم، فرفع من شأنها، بعد أن كانوا يستشعرون غضاضة من إقبالهم على لغة غيرهم، وهذا شأن الأعرابي المتمسك بعصبيته وانتسابه إلى قبيلته ولغته اللتين يعتز بهما" .
وكان من ضمن النتائج التي قررها الباحث - غير ما تقدم من نفي التضاد في القرآن - هو اعتبار التضاد جزءاً من الاشتراك اللفظي، وهو رأي كثير من الدارسين لهذه الظاهرة .
وعلى الجملة يمكن اعتبار هذا الكتاب إضافة مهمة إلى المكتبة القرآنية؛ من جهة بحث ظاهرة التضاد في القرآن، تلك الظاهرة التي لم تحظ بالدرس المطلوب، سواء في كتابات المتقدمين أم في كتابات المتأخرين .
ونحسب أن الباحث وفِّق إلى حدٍّ كبير في دراسة وتحليل هذه الظاهرة، دون أن ينفي ذلك وجود بعض الاستدراكات التي تؤخذ على الباحث، والتي من بينها ما ذكره في فهرس الكتاب من عنوان (التضاد في علمي أصول الفقه والمنطق)، وجَعْله ذلك مبحثاً مستقلاً، غير أنه لم يتحدث في هذا المبحث إلا ببضع أسطر! وأحال القارئ إلى كتابه (الاشتراك اللفظي في القرآن) .
كما أن القارئ يلمس شيئاً من التناقض بين ما جاء في مقدمة الباحث، حيث قرر أن "اجتماع الضدين في لفظ واحد ظاهرة ليست بمنأى عن اللغات الحية"، وبين ما قرره في خاتمة بحثه من نفي "وجود هذه الظاهرة في القرآن الكريم على الأقل - على حد قوله - إن لم نقل في العربية عامة "، لكن ذلك لا يقلل من قيمة هذه الدراسة فيما نحسب .
الكتاب صدرت طبعته الأولى عن دار الفكر بدمشق عام 1999، وأعيدت طباعته 2007 .